رئيـس مجلس الأمة المجاهـد صالح ڤوجيـل يكتب لـ”الشعب”:

مسألة هجرة الجزائريين إلى فرنسا.. الجذور ومآلات الحاضر والسياسات السياسوية الفرنسية

المجاهد صالح ڤوجيل رئيس مجلس الأمة

الشبـاب الجزائريــين تواجدوا بفرنسا قبـل العشرينيـات وهــم مرغمـين وليسوا مخيريـن

على الشباب الفرنسي من أصل جزائري أن يعرفوا بأن أجدادهم ضحوا بدمائهم خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية

الهجرة الجزائريـة بعـد 1945 كانـت اقتصاديـة وشجعتها فرنسا بسبب حاجتها إلى يد عاملة لإعادة بناء ما دمرته الحرب

في الستينيات والثمانينيـات كان العديد من أبناء المهاجرين لا يزالون يؤمنون بفكرة العودة إلى ديارهم بوطنهم

 اتفاق 1968 في الحقيقة منذ توقيعه إلى اليوم لم يخدم إلا الجانب الفرنسي

مهاجمة المهاجرين المنحدرين من أصول جزائرية بشكل مجحف..انحطاط لدى جزء من الطبقة السياسية الفرنسية

إن تواجد الجزائريين في فرنسا لم يكن أبدا أمرا حديثًا، حيث اعتقد كثيرون أنه بدأ مع اندلاع الثورة التحريرية في الجزائر. كما يجادل بعض المؤرخين الفرنسيين أيضًا في الموضوع ويروّجون إلى أن الجزائريين قد هاجروا إلى فرنسا في عام 1920..
في الواقع، انتقل الجزائريون إلى فرنسا قبل ذلك بكثير، وبشكل أكثر دقة، خلال الحرب العالمية الأولى بين 1914-1918، حيث تم تجنيدهم إجباريا وتعبئتهم بالقوّة في الجيش الفرنسي لمحاربة ألمانيا، وقد لقي كثير منهم مصرعهم في القتال، لا سيما خلال معركة فردان (La bataille de Verdun)، في 21 فبراير 1916، والتي تعد من أكثر المواجهات دموية في الحرب العالمية الأولى، بالنظر إلى ما خلفته من مئات الآلاف من الضحايا، من بينهم عشرات الآلاف من الجزائريين، وهذا ما يشكل دليلاً دامغًا على أن الشباب الجزائريين تواجدوا في فرنسا قبل العشرينيات بفترة طويلة، وهم مرغمين وليسوا مخيرين.. كما أن المسجد الكبير الموجود في باريس، والذي تم وضع حجره الأساس في 19 أكتوبر 1922، قد تم بناؤه اعترافا من فرنسا بالدور الذي قام به المسلمون خدمة لمصالحها، بما في ذلك أولئك الذين قتلوا من أجل أن تنتصر هي في الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 و1918.
في الواقع، كان ذلك تجنيدًا قسريًا، أُلقي على إثره الوافدون الجزائريون في الصفوف الأولى للقوات الفرنسية، دون أن يختاروا هذا المصير، حيث اضطروا للقتال من أجل فرنسا والدفاع عنها بشجاعة ضد الجيش الألماني، على الرغم من أنهم غرباء عن هذه الحرب، وتم أخذهم قسرا من بلدهم الأصلي الذي احتلته فرنسا الاستعمارية، وجردتهم منه.. هذا السيناريو تكرر عشية الحرب العالمية الثانية، عبر حشد عدد كبير من الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي ودفعهم إلى محاربة ألمانيا النازية.
لهذا، يجب أن يعرف الشباب الفرنسي من أصل جزائري، أن أجدادهم ضحوا بدمائهم خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكذا خلال ثورة الفاتح نوفمبر 1954، حتى يتمكنوا هم من العيش اليوم بحرية كاملة، فانتماؤهم إلى المجتمع الفرنسي هو - بالمحصلة التاريخية - اندماج لأجيال متعاقبة من الجزائريين في المجتمع الفرنسي، رغم أنف الدوائر السياسية والفكرية التي تنتمي إلى اليمين المحافظ واليمين المتطرف، والتي تتعاطى مع الهجرة كمسألة سياسوية وبمستوى متدنٍ للغاية...
من المهم التذكير أنه بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، أصبحت الهجرة الجزائرية ذات طبيعة اقتصادية أساسا، وشجعتها فرنسا بسبب حاجتها إلى اليد العاملة الجزائرية من أجل إعادة بناء ما دمرته الحرب.. كما تميزت منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي بظهور صنف جديد من الهجرات، هو الهجرة العائلية (التجمع العائلي)، ومنها نشأ نوع آخر من المنفى الجزائري.. نلاحظ أن فرنسا دعت الجزائريين - مرة أخرى - للهجرة إليها بوصفهم قوة عاملة ضرورية لإعادة بناء فرنسا.. من الواضح أن هذه الموجة من الهجرة الجزائرية كانت قسرية أيضا، فصعوبة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي مر بها الشعب الجزائري تحت الحكم الاستعماري الفرنسي، عاش بدافع قبول هذا المنفى القسري...
وعليه، يتضح جليا أن الخيار لم يكن أبدًا بيد الجزائريين، ففي البداية كان التجنيد القسري خلال الحربين العالميتين سببا للهجرة، ثم ارتبطت موجة الهجرة القسرية بتداعيات الاستعمار الفرنسي للجزائر، وأيضًا بالخيارات التاريخية لفرنسا التي ربطت مصيرها بسياسة الهجرة، فعليها إذن أن تحسن تدبير التعامل مع هذا الواقع.. وفي أعقاب ذلك، لن ننسى أن الهجرة الجزائرية إلى فرنسا اندمجت تمامًا مع النضال لصالح الحركة الوطنية، وخاصة مع ثورة التحرير الوطنية في نوفمبر 1954، وقد كانت هذه الفترة صعبة بشكل مضاعف على المهاجرين الجزائريين الذين عانوا آلام المنفى زيادة على الحملات القمعية العنصرية التي قامت بها الشرطة الفرنسية.
على أي حال، لن ينسى الشعب الجزائري أبدا، وجميع مناصري العدالة من الفرنسيين عنف الشرطة الفرنسية في تلك الليلة المأساوية من 17 أكتوبر 1961 حيث لقي العديد من الجزائريين حتفهم وسط باريس، بعد أن ألقت بهم الشرطة الفرنسية العنصرية في نهر السين بأوامر من المجرم محافظ شرطة باريس موريس بابون، والذي اشتهر أيضا بتورطه في الجرائم التي ارتكبت ضد الجزائريين خلال الفترة 1956-1958، عندما كان محافظا لمدينة قسنطينة ومفتشا عاما للإدارة في البعثة الاستثنائية بشرق الجزائر، فهو من أمر بقصف منطقة الأوراس بقنابل النابالم، مع زبانيته من أمثال الباشاغا تاوتي..
وفي الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان العديد من أبناء المهاجرين لا يزالون يؤمنون بفكرة العودة إلى ديارهم، فالحنين إلى البلد الأم ينتقل من جيل إلى جيل.. من ناحية أخرى، نشط البعض منهم في السياسة الفرنسية، وبعضهم اقتحم النضال النقابي، مشكلين بذلك طليعة متعلمة ومسيّسة دون أي عقدة، وبالتالي انخرطوا في الصراعات الاجتماعية والسياسية المختلفة مثل مناهضة العنصرية، والمطالبة بتكافؤ الفرص لصالح شباب الأحياء المهمّشة، والمساواة في الحقوق المدنية وغيرها، ليتم تأكيد هذا المسار خلال عام 1983 بحدث تاريخي أطلق عليه اسم “مسيرة المهاجرين” (Marche des Beurs)، والذي كرس بشكل قاطع ميلاد جيل جديد من الفرنسيين ذوي الأصول الأجنبية، يعتزمون أن يكونوا جزءًا من النقاشات والصراعات الجارية في عمق المجتمع الفرنسي.
وفي هذا الصدد، لن يكون بوسع جاليتنا الوطنية في فرنسا أن تنسى الهجمات العنصرية التي ارتكبتها بقايا منظمة الجيش السري (OAS) ضد العمال المهاجرين الجزائريين في فرنسا، في السبعينيات. مما دفع رئيس الجمهورية آنذاك، الراحل هواري بومدين، إلى إيقاف توافد مهاجرين جزائريين جدد على فرنسا خلال خطاب له بمدينة تبسة في سبتمبر 1973.
وبعد عدة عقود من نهاية حرب التحرير الوطنية، لا يتردد السياسيون الذين يفتقدون رؤية سياسية جادة ممن ينتمون لليمين المتطرف، وأحيانًا حتى من اليمين المحافظ المزعوم، في استغلال تداعيات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، من أجل تجريم المهاجرين ظلما في دعاية ديماغوجية وشعبوية، تستهدف على وجه الخصوص الجالية الجزائرية المتواجدة على الأراضي الفرنسية بشكل قانوني.
مع العلم أن الجزائر وفرنسا وقعتا اتفاقا في 27 ديسمبر 1968، يحدّد شروط تنقل وإقامة وعمل الجزائريين في فرنسا. وفي الوقت الراهن، ترى بعض الدوائر السياسية الفرنسية أن هذا الاتفاق يخدم الجانب الجزائري أكثر بسبب طابعه المستثنى عن الإطار القانوني العام الذي يحكم مسألة الهجرة في فرنسا. ومن بين هؤلاء، يوجد من يطالب بمراجعته أو إلغائه، ولكنهم جميعاً لم يشيروا إلى أن هذا الاتفاق قد نُقّح وعُدّل في الأعوام 1985 و1994 و2001، مما أزال سبب وجوده أصلا.
ومع ذلك، يمكن التأكيد أن الواقع مختلف تمامًا، والعكس هو الصحيح، لأن هذا الاتفاق منذ توقيعه إلى اليوم لم يخدم إلا الجانب الفرنسي، وقد تم التوصل إليه بناء على طلب ملح من الجانب الفرنسي، والذي كان دائما المستفيد الأول من جهود الجزائريات والجزائريين منذ هجرتهم إلى فرنسا كعمال، إلى غاية ما يسمى بالهجرة المنتقاة، والتي تم الترويج لها في السنوات الأخيرة في فرنسا بشكل انتقائي، لتشجيع التحاق المواهب وخريجي الجامعات الجزائرية من الكفاءات رفيعة المستوى، دون أي مقابل يعود على الجزائر التي أضحت مصدرا لثروة بشرية تكاد تكون موجهة حصريا للمجتمع الفرنسي.
 تجدر الإشارة إلى أن رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، أشار إلى الاتفاق الفرنسي الجزائري لعام 1968 خلال لقائه الإعلامي الدوري مع الصحافة الوطنية، والذي بثّ يوم السبت 5 أكتوبر 2024، حيث أكد أن هذا الاتفاق أصبح بحق “لافتة يسير خلفها جيش المتطرفين اليمينيين في فرنسا”.
في الختام، من الواضح تمامًا أنه لا يمكن لأحد أن يجادل في مساهمة موجات الهجرة الجزائرية لصالح فرنسا، فالقول بخلاف ذلك سيكون إهانة للتاريخ، وتنكرا لأرواح آلاف الجزائريين الذين دفعوا حياتهم في ميادين المعارك خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
إن استغلال مسألة الهجرة لأغراض سياسوية، ومهاجمة المهاجرين المنحدرين من أصول جزائرية بشكل خاص ومجحف، يظهران بوضوح الانحطاط السياسي لدى جزء من الطبقة السياسية الفرنسية وليس كلها لحسن الحظ، حيث من الوارد دائمًا أن تضم فرنسا سياسيين يملكون بُعد نظر ورؤية حكيمة، لديهم معرفة شاملة بالتاريخ، ويعترفون بأهمية بلد مثل الجزائر.. وهذا ما أدركته الثورة بموقفها الذي جسده إعلان الفاتح من نوفمبر، والتي أوضحته حولياتها بصفة جلّية من خلال التفريق ما بين الشعب الفرنسي والاستعمار الفرنسي.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024